في الوقت الذي تعرف فيه الموسيقى العربية تدهوراً فظيعاً لا من حيث الذوق ولا من حيث طبيعة الموسيقى ولا حتى من مضمون الأغنية وأهدافها، فأُصيبت بمرض التفاهة القاتل وشَربت من كأس الميوعة حتى الثمالة، كان هناك عهدٌ قريبٌ مضى عرفت فيه الأغنية العربية ازدهاراً كبيراً ومستوى رفيعا يأسِر الألباب، فارتقى فيها اللحن وسمت فيها الكلمة وتعلّق بها ذوّاقو الفن الجميل إلى أبعد الحدود، وأُعجب بها المشرقي والمغربي على حدّ سواء، وعُمّرت المسارح ودور الفن بأصحاب البذلة الأنيقة بأناقة الموسيقى المسموعة، والحالة هذه برزت على الساحة الفنية المغربية في بداية السبعينات وبالضبط سنة 1972 فرقة "لمشاهب" الموسيقية.
وترعرعت بالحي المحمدي أحد أفقر أحياء الدار البيضاء وأكثرها شعبية، كانت بمثابة الصرخة المدوية المنبعثة من أعماق القلب، تصف بكلماتٍ بليغة وأشعار زجل غاية في الروعة والعذوبة ما كان يُكابده الشباب آنذاك من انعدام الآفاق وضبابية المستقبل وسوداوية الواقع، فجاءت مجموعة المشاهب بأغنيتها الملتزمة الهادفة لتتكلّم بلسان كل شاب، وبلسان كل معوز، وبلسان كل مقهورٍ ومنبوذٍ في البلد في ظل الحراك الفكري السياسي والثقافي الذي كان يعرفه المغرب في أواخر الستينات وبداية السبعينات.
فحقّقت نجاحاً منقطع النظير جعل صدى أغانيها يتردّد في كل مكان، في الداخل والخارج، في المقاهي والأعراس، في الأسواق والنوادي والشوارع، في المواصلات في كل مكان، وتجدُ الناس على اختلاف أعمارهم يُنصتون لأغانيهم بكل اهتمام وقد يذرفون الدموع تأثراً بكلماتها عميقة الدلالة.
تميزت أغاني المشاهب بالكلمة الحكيمة المليئة بالرمزية والغيرة على التراث والمصير المشترك، فكان لوناً جديداً لم تعهده الأغنية المغربية من قبل |
عرفت مجوعة "لمشاهب" أوجها من منتصف السبعينات حتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، كامتدادٍ لما يُعرفُ بالظاهرة الغيوانية، لكنّها مُنعت من الظهور على وسائل الإعلام بقرارٍ من ادريس البصري وزير الخارجية آنذاك، إلا أن الملك الراحل الحسن الثاني أبدى إعجابه بالمجموعة خصوصاً الأغنية الرائعة "بغيت بلادي"، وعلى إثر ذلك تراجعت حدّة المضايقات من قبل رجال المخزن الذين لم يَكُفّوا عن استنطاق المجموعة مراراً وتكراراً في مخفر الشرطة المشهور في درب مولاي الشريف بالدار البيضاء مباشرة بعد كل حفلة.
ولم يكن الراحل الحسن الثاني الوحيد من بين الشخصيات المرموقة التي أُعجبت بإبداعاتِ المجموعة، بل وحتى الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عبّر عن تأثّره الكبير بكلمات أغنية "فلسطين" التي تُعتبر إحدى روائع المجموعة، وسلّمهم شخصياً جائزة القرص الذهبي باليونسكو سنة 1981.
ومن الألبومات المشهورة لمجموعة المشاهب ألبوم أمانة 1973، داويني 1974، خليلي 1978، العالم 1981، الصفا 1984، الدنيا 1986، مجنون هاد العالم 1988، يوم كنت معايا 1990، البحر 1996، صلاح الدين 2000، وشبح القيامة 2002. ويُعتبر محمد البختي هو مؤسس مجموعة المشاهب عام 1974، وكان أفرادها في البداية مولاي الشريف لعمراني عازف المندولين الشهير، سعيدة بيروك مغنية، والشعراء الغنائيون محمد باطما، مبارك الشاذلي، محمد حمادي، محمد السوسدي وآخرون.
تميزت أغاني المشاهب بالكلمة الحكيمة المليئة بالرمزية والغيرة على التراث والمصير المشترك، فكان لوناً جديداً لم تعهده الأغنية المغربية من قبل، غاصوا بأغانيهم في أتون السياسة وقضايا الأمة وانتقدوا الفساد والبطالة ودافعت حناجرهم القوية عن مشاكل المجتمع وهمومه، فاستحقّوا بذلك احترام الناس كافّة وحازوا حبّ الصغير قبل الكبير. ومما زاد من نجومية المجموعة أنّ عناصرها كانوا من عامة الناس البسطاء تخرجوا من حي متواضعٍ بنواحي الدار البيضاء، وبالتالي فتقاسيم وجوههم وتفاعلهم مع كل أغنية على حدة كان نابعاً من صميم القلب والوجدان، وكأنّ كل واحد منهم يُعبّر عن معاناته الشخصية ويُفصح عن أحزانه وأتراحه وكأنّه جزء من محيط يُقاسي مثله نفس العذاب، يقول مقتطف من أغنية "دويني" بالعامية المغربية:
دويني كان ريت للـــــعداب سباب
كل ما ﻧﯕول عييت عادا بديت عداب
حطوني وسط لحصيدة نشالي يا بابا
يعلم الله بالمصيدة لكلوب الكدابة
كيف نارهم تكدينا
خانو فين غرو بينا
الهم ﭐتـحدى الـبارح زاد اليوم
آش هاد الغدة وانا قلبي معدوم
واهيا خياتي وين مشيت انا
بين السادة لـعفو باللي جانا
والـــعفو يابابا واش لــــحق يزول
ﻟقلوب الكدابة نساونا في لمعقول
واحيدوه واحيدوه
لم تكن مجموعة المشاهب الوحيدة من سلكت هذا الطريق المليء بالمضايقات والمتاعب، فسبقها "ناس الغيوان"، وعاصرها "السهام" و"لرصاد" وغيرهم من الفرق الموسيقى البارزة التي عرفت تألقاً كبيراً في تلك الفترة، وكلّهم التزموا بخط الأغنية المحافظة القريبة من معاناة الناس، وقال السوسدي في أحد لقاءاته الصحفية أن أغنية "مجمع العرب" تنبّأت بالربيع العربي ودعت لنهوض الأمّة وتحسين الأوضاع المعيشية منذ سنة 1977. ويحفظُ الجمهور المغربي أغاني المشاهب الخالدة عن ظهر قلب، خصوصاً جيل السبعينات والثمانينات وما تزال أغانيهم تغزوا البيوت والمقاهي إلى اليوم، فمِثل هذا الفن لا يموت، ومثل هذه الموسيقى لا تصدأ، ومثل هؤلاء الرجال الغيورين على الوطن قبل أن يكونوا مغنيين قد لا يجود الزمن بمثلهم مرة أخرى.
لقد هجر الناس الأغنية العربية حين هجرت اهتماماتِهم، وغرّدت خارج معاناتهم، وغدت وعاء للكلام الهابط والكلمة الساقطة، ولم تعد تلك المرآة التي تعكس ذواتهم وإنسانيتهم كما كانت من قبل، فكلماتها أبعد ما تكون عن الواقع المعاش، وألحانها أبعد ما تكون عن أن تتقبّلها أذنٌ موسيقية، فأصبحت الأغنية تولد في النهار وتموت قبل غروب الشمس فلا يسمع بها أحدٌ بعد ذلك، ولا يجد الإنسان الذواق للفن إلا أن يعود للموسيقى العربية الأصيلة ليجد ضالته، وليشتمّ رائحة الألحان العبقة ويتلمّس رقتها وكأنه يحضنها نغمةً نغمة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire